الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وكثيرًا ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادى المستغاث به إذا كان ميتًا. وكذلك قد يكون حيًا ولا يشعر بالذي ناداه، بل يتصور الشيطان بصورته، فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه وإنما هو الشيطان، وهذا يقع للكفار المستغيثين بمن يحسنون به الظن من الأموات والأحياء؛ كالنصارى المستغيثين بجرجس وغيره من قداديسهم، ويقع لأهل الشرك والضلال من المنتسبين إلى الإسلام الذين يستغيثون بالموتى والغائبين، يصور لهم الشيطان في صورة ذلك المستغاث به وهو لا يشعر. وأعرف عددًا كثيرًا وقع لهم في عدة أشخاص يقول لي كل من الأشخاص: أني لم أعرف أن هذا استغاث بي، والمستغيث قد رأى ذلك الذي هو على صورة هذا، وما اعتقد أنه إلا هذا. وذكر لي غير واحد أنهم استغاثوا بي، كل يذكر قصة غير قصة صاحبه، فأخبرت كلا منهم أني لم أجب أحدًا منهم ولا علمت باستغاثته، فقيل:/ هذا يكون ملكًا، فقلت: الملك لا يغيث المشرك، إنما هو شيطان أراد أن يضله. وكذلك يتصور بصورته ويقف بعرفات، فيظن من يحسن به الظن أنه وقف بعرفات، وكثير منهم حمله الشيطان إلى عرفات أو غيرها من الحرم، فيتجاوز الميقات بلا إحرام ولا تلبية، ولا يطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة، وفيهم من لا يعبر مكة، وفيهم من يقف بعرفات ويرجع ولا يرمي الجمار، إلى أمثال ذلك من الأمور التي يضلهم بها الشيطان حيث فعلوا ما هو منهي عنه في الشرع، إما محرم وإما مكروه ليس بواجب ولا مستحب، وقد زين لهم الشيطان أن هذا من كرامات الصالحين، وهو من تلبيس الشيطان، فإن اللّه لا يُعبَد إلا بما هو واجب أو مستحب، وكل من عبد عبادة ليست واجبة ولا مستحبة ـ وظنها واجبة أو مستحبة ـ فإنما زين ذلك له الشيطان، وإن قدر أنه عفي عنه لحسن قصده واجتهاده، لكن ليس هذا مما يكرم اللّه به أولياءه المتقين، إذ ليس في فعل المحرمات والمكروهات إكرام، بل الإكرام حفظه من ذلك ومنعه منه؛ فإن ذلك ينقصه لا يزيده، وإن لم يعاقب عليه بالعذاب فلابد أن يَخْفِضَه عما كان ويخفض أتباعه الذين يمدحون هذه الحال ويعظمون صاحبها، فإن مدح المحرمات والمكروهات وتعظيم صاحبها هو من الضلال عن سبيل اللّه، وكلما ازداد العبد في / البدع اجتهادًا ازداد من اللّه بعدًا؛ لأنها تخرجه عن سبيل اللّه ـ سبيل الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ إلى بعض سبيل المغضوب عليهم والضالين.
إذا عرف الأصل في هذا الباب فنقول: يجوز ـ بل يستحب، وقد يجب ـ أن يُذَبَّ عن المظلوم وأن يُنْصَرَ؛ فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان، وفي الصحيحين حديث البراء بن عازب قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسبعٍ، ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب، وعن شُرْب بالفضة، وعن المَيَاثِر، وعن القِسِيِّ، ولبس الحرير، والإستبرق، والديباج. وفي الصحيح عن أنس قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما) قلت: يارسول اللّه، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: (تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه). وأيضًا، ففيه تفريج كربة هذا المظلوم. وفي صحيح مسلم، عن أبي/ هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبَة من كُرَبِ الدنيا نفس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر اللّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره اللّه في الدنيا والآخـرة، واللّه في عَوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه). وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ عن جابر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل عن الرقى ـ قال: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل). لكن ينصر بالعدل كما أمر اللّه ورسوله، مثل: الأدعية والأذكار الشرعية، ومثل: أمر الجنى ونهيه، كما يؤمر الإنسى وينهى، ويجوز من ذلك ما يجوز مثله في حق الإنسى، مثل: أن يحتاج إلى انتهار الجنى وتهديده ولعنه وسبه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي الدرداء قال: قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: (أعوذ باللّه منك ثم قال: ألعنك بلعنة اللّه ثلاثًا) وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يارسول اللّه، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك! قال: (إن عدو اللّه إبليس جاء بِشِهَاب من نار ليجعله في وجهى فقلت: أعوذ باللّه منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة اللّه التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، وواللّه لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة) ففي هذا الحديث الاستعاذة منه /ولعنته بلعنة اللّه، ولم يستأخر بذلك فمد يده إليه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان عَرَضَ لي فَشَدَّ على ليقطع الصلاة على، فأمكننى اللّه منه فَذَعَتُّه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول أخى سليمان: فهذا الحديث يوافق الأول ويفسره، وقوله: [ذَعَتُّه] أى: خنقته، فبين أن مد اليد كان لخنقه، وهذا دفع لعدوانه بالفعل وهو الخنق، وبه اندفع عدوانه فرده اللّه خاسئًا. وأما الزيادة ـ وهو ربطه إلى السارية ـ فهو من باب التصرف الملكى الذي تركه لسليمان، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتصرف في الجن كتصرفه في الإنس تصرف عَبْد رسول، يأمرهم بعبادة اللّه وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع إليه وهو التصرف الملكي؛ فإنه كان عبدًا رسولا وسليمان نبي ملك، والعبد الرسول أفضل من النبي الملك، كما أن السابقين المقربين أفضل من عموم الأبرار أصحاب إلىمين، وقد روى النسائي ـ على شرط البخاري ـ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان، فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدى، ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقًا حتى يراه الناس). ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد، وفيه:(فأهويت بيدى، فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين: الإبهام والتي تليها)، وهذا فعله في الصلاة، وهذا مما احتج به العلماء على جواز مثل هذا في الصلاة، وهو كدفع المارّ، وقتل الأسودين، والصلاة حال المُسَايَفَة. وقد تنازع العلماء في شيطان الجن إذا مر بين يدي المصلي، هل يقطع؟ على قولين هما قولان في مذهب أحمد، كما ذكرهما ابن حامد وغيره: أحدهما: يقطع لهذا الحديث؛ ولقوله لما أخبر أن مرور الكلب الأسود يقطع للصلاة: (الكلب الأسود شيطان)، فعلل بأنه شيطان. وهو كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرًا، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة. ومما يتقرب به إلى الجن الذبائح، فإن من الناس من يذبح للجن وهو من الشرك الذي حـرمـه اللّه ورسوله، ورُوى أنه نهى عن ذبائح الجن، وإذا برئ المصاب بالدعاء والذكر وأمـر الجـن ونهيهم وانتهارهم /وسـبهم ولعنهم، ونحـو ذلك مـن الكلام حصل المقصود، وإن كـان ذلك يتضمن مـرض طائفـة مـن الجـن أو مـوتهم فهم الظالمـون لأنفسهـم، إذا كان الراقى الداعى المعالج لم يتعـد عليهم كما يتعـدى عليهم كثير من أهل العزائم، فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله، وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبسه؛ ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك، ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه، وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه. وأما من سلك في دفع عداوتهم مسلك العدل الذي أمر اللّه به ورسوله فإنه لم يظلمهم، بل هو مطيع للّه ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب بالطـريق الشرعى التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق، ومثل هذا لا تؤذيه الجـن؛ إما لمعرفتهم بأنه عادل، وإما لعجزهم عنه. وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه، فينبغى لمثل هذا أن يحترز لقراءة العوذ، مثل آية الكرسي والمعوذات، والصلاة، والدعاء، ونحو ذلك مما يقوى الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه، فإنه مجاهد في سبيل اللّه، وهذا من أعظم الجهاد، فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه، وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها، فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق. ومـن أعظم ما ينتصر به عليهـم آية الكرسي، فقد ثبت في صحيح / البخاري حديث أبي هـريرة قال: وَكَّلَنى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتأني آتٍ فجعل يَحْثُو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: أني محتاج وعلى عيال ولي حاجـة شـديدة، قال: فخليت عنـه، فأصبحت فقال رسـول اللّه صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة، مافعل أسيرك البارحة؟) قلت: يارسول اللّه، شكى حاجة شديدة وعيالًا فرحمته وخليت سبيلـه، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود) فعرفت أنه سيعود لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: دعنى فـأني محتاج وعلى عيال لا أعـود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسـول اللّه صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هـريرة، مـا فعل أسيرك؟) قلت: يارسول اللّه، شكى حاجة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود) فرصدته الثالثة، فجاء يحثو مـن الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات، تزعم أنك لا تعـود ثم تعـود، قال: دعنى أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها، قلت: ماهن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته، فإن لها تأثيرًا عظيمًا في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين، مثل: أهل الظلم والغضب، وأهل الشهوة والطرب، وأرباب السماع المُكَاء والتَّصْدِية، إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين، وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان، ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطأني، إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء اللّه / المتقين، وإنما هى من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين.والصَّائِل المعتدى يستحق دفعه سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد)، فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادى، فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته؟! فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشة إنسى بإنسى، وإن لم يندفع إلا بالقتل جاز قتله. وأمـا إسـلام صاحبـه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين، وهذا فرض على الكفايـة مع القدرة، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمـه)، فـإن كان عـاجزًا عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب، وإن كان قادرًا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه. وأمـا قـول السائل: هل هـذا مشروع؟ فهـذا مـن أفضل الأعمال، وهو من أعمال الأنبياء والصالحين؛ فإنه ما زال الأنبياء والصالحون / يدفعون الشياطين عن بنى آدم بما أمر اللّه به ورسـوله، كما كان المسـيح يفعل ذلك، وكما كـان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقد روى أحمـد في مسنده، وأبو داود في سننه من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال: حـدثتني أم أَبَان بنت الوازع بن زارع بن عامـر العبدي، عن أبيها؛ أن جدها الزارع انطلق إلى رسـول اللّه صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه بابن له مجنون ـ أو ابن أخت له ـ قال جدى: فلما قـدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قلت: إن معي ابنًا لي ـ أو ابن أخت لي ـ مجنون، أتيتك به تدعو اللّه له. قال: (ائتني به) قال: فانطلقت به إليه وهو في الركاب، فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: (ادْنُهُ مني، اجعل ظهره مما يليني) قال: بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله، فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه، ويقول: (اخرج عدو اللّه! اخرج عدو اللّه !) فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول، ثم أقعده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين يديه، فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفضل عليه. وقال أحمد في المسند: ثنا عبد اللّه بن نُمَيْرٍ، عن عثمان بن حكيم، أنا عبد الرحمن ابن عبد العزيز، عن يعلى بن مرة قال: لقد رأيت من / رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ما رآها أحد قبلي، ولا يراها أحد بعدي، لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها، فقالت: يا رسول اللّه، هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال: (ناولينيه)، فرفعته إليه، فجعله بينه وبين واسطة الرَّحْل، ثم فَغَرَ فَاهُ فنفث فيه ثلاثًا، وقال: (بسم اللّه أنا عبد اللّه اخْسَأ عدو اللّه) ثم ناولها إياه، فقال: القينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل، قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، فقال: (ما فعل صبيك؟) فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئًا حتى الساعة فاجْتَرِر هذه الغنم، قال: (انزل خذ منها واحدة ورد البقية). وذكر الحديث بتمامه). ثنا وكيع قال: ثنا الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن أبيه قال وَكِيع: مرة يعنى الثقفي، ولم يقل: مرة عن أبيه؛ أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معها صبي لها به لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخرج عدو اللّه أنا رسول اللّه) قال: فبرأ، قال: فأهدت إليه كبشين، وشيئًا من أقط، وشيئًا من سمن. قال: فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (خذ الأقْطَ والسمن، وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر). / ثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن عطاء بن السائب، عن عبد اللّه بن حفص، عن يعلى بن مـرة الثقفي قـال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وذكر الحـديث، وفيه قال: ثم سـرنا فمـررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جِنَّةٌ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخره فقال: (اخـرج إني محمد رسـول اللّه) قـال: ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتتـه المرأة بجـزر ولبن، فأمـرها أن تـرد الجـزر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن، فسألها عن الصبي فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبًا بعدك. ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء؛ لكون الشياطين لم تكن تقدر تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا، فقد أمرنا اللّه ورسوله من نصر المظلوم والتنفيس عن المكروب ونفع المسلم بما يتناول ذلك. وقـد ثبت في الصحيحـين حـديث الذين رَقَوا بالفاتحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أدراك أنها رقيـة)، وأذن لهم في أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان الذي أراد قطـع صلاته:(أعوذ باللّه منك، ألعنك بلعنة اللّه التامة ثلاث مرات). وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن كانوا لم يـروا الترك ولم يكـونوا يرمـون بالقِسِيِّ الفارسية ونحـوهـا مما يحتاج إليه في قتال، فقـد / ثبت عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه أمـر بقتالهم، وأخبر أن أمـتـه ستقاتلهم)، ومعلـوم أن قتالهم النافـع إنما هـو بالقسي الفارسية، ولو قوتلوا بالقسي العربية التي تشبه قوس القـطن لم تغـن شيئًا، بل استطالوا على المسلمين بقوة رميهم، فلابد من قتالهم بما يقهرهم. وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب: إن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا في قلوبنا روعة، فقال: وأنتم فالبسوا كما لبسوا. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عمرة القضية بالرَّمَل والاضْطِبَاع؛ لِيُرِىَ المشركين قوتهم، وإن لم يكن هذا مشروعـًا قبل هذا، ففعل لأجل الجهاد مالم يكن مشروعـًا بدون ذلك. ولهذا قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضربـًا كثيرًا جدًا، والضرب إنما يقع على الجنى ولا يحس به المصروع، حتى يفيق المصروع ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل، بحيث لو كان على الإنسى لقتله، وإنما هو على الجنى، والجنى يصيح ويصرخ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة، كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين. / وأما الاستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع، لا سيما إن كان فيه شرك؛ فإن ذلك محرم. وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك، وقد يقرؤون مع ذلك شيئًا من القرآن ويظهرونه، ويكتمون ما يقولونه من الشرك، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله. والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه؛ فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر. والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده ـ وأيضًا ـ فإن المكره مضطر إلى التكلم به ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين: أحدهما: أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم، فلا يؤثر بل يزيده شرًا. والثأني: أن في الحق ما يغني عن الباطل. / والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس، وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة، فهؤلاء يكذبون بالموجود، وهؤلاء يعصون، بل يكفرون بالمعبود. والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود، وتؤمن بالإله الواحد المعبود، وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه، فتدفع شياطين الإنس والجن. وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم، فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسؤول فهو حرام، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن معاوية ابن الحكم السلمى قال: قلت: يا رسول اللّه، أمورًا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، قال: (فلا تأتوا الكهان)، وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ عن عبيد اللّه، عن نافع، عن صفية، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا). وأما إن كان يسأل المسؤول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز، كما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صَيَّاد فقال: (ما يأتيك؟) فقال: يأتيني صادق وكاذب، قـال: (مـا ترى؟) قال: أرى عرشـًا على الماء، قال: (فأني قد خبأت لك خبيئًا)، قال: الدُّخُّ الدُّخُّ [والدُّخُّ ـ بضم الدال وفتحها ـ: الدُّخان]، قال: (اخسأ فلن / تعدو قدرك، فإنما أنت من إخوان الكهان). وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن، كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به، وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة، كما قـال تعالى: وقد روى عن أبي موسى الأشعرى أنه أبطأ عليه خبر عمر، وكان هناك امرأة لها قرين من الجن، فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يَسِمُ إبل الصدقة. وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشًا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم، وشاع الخبر، فسأل عمر عن ذلك فذكر له، فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن، وسيأتى بريد الإنس بعد ذلك، فجاء بعد ذلك بعدة أيام.
ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئًا من كتاب اللّه وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى، كما نص على ذلك أحمد وغيره، قال عبد اللّه بن أحمد: قرأت على أبي، ثنا يَعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن محمد بن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب: بسم اللّه لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه رب العرش العظيم، الحمد للّه رب العالمين [الأحقاف: 35]. قال أبي: ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه، وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى، قال أبي: وزاد فيه وكيع: فتسقى وينضح ما دون سرتها، قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جَامٍ أو شيء نظيف. وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحِيرى: أنا الحسن بن سفيان النَّسَويّ، حدثني عبد اللّه بن أحمد بن شبويه، ثنا علي بن / الحسن بن شَقِيق، ثنا عبد اللّه بن المبارك، عـن سفيان، عـن ابن أبي ليلي، عـن الحكم، عـن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب: بسم اللّه لا إله إلا اللّه العلى العظيم لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه وتعالى رب العرش العظيم والحمد للّه رب العالمين [الأحقاف: 35]. قال على: يكتب في كاغَدَة [كاغدة: الكاغَدُ: القرطاس، مُعَرَّب] فيعلق على عضد المرأة، قال على: وقد جربناه فلم نر شيئًا أعجب منه، فإذا وضعت تحله سريعًا، ثم تجعله في خرقة أو تحرقه. آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس اللّه روحه، ونَوَّر ضريحه.
/ قال شيخ الإِسلام ـ رَحِمهُ اللَّه: في الاكتفاء بالرسالة، والاستغناء بالنبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع ما سواه اتباعًا عامًا، وأقام اللّه الحجة على خلقه برسله فقال تعالى: فدلت هذه الآية على أنه لا حجة لهم بعد الرسل بحال، وأنه قد يكون لهم حجة قبل الرسل. فالأول يبطل قول من أَحْوَج الخلق إلى غير الرسل حاجة عامة كالأئمة. والثأني يبطل قول من أقام الحجة عليهم قبل الرسل من المتفلسفة والمتكلمة. / وقال تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: [الأعراف: 2، 3]، ففرض اتباع ما أنزله من الكتاب والحكمة، وحظر اتباع أحد من دونه. وقال تعالى: وقال تعالى: الآية [النساء: 13، 14]. وقد ذكر ـ سبحانه ـ هذا المعنى في غير موضع، فبين أن طاعة الله ورسوله موجبة للسعادة، وأن معصية الله موجبة للشقاوة، وهذا يبين أن مع طاعة الله ورسوله لا يحتاج إلى طاعة إمام أو قياس، ومع معصية الله ورسوله لا ينفع طاعة إمام أو قياس. ودليل هذا الأصل كثير في الكتاب والسنة،وهو أصل الإسلام [شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا رسول اللّه] وهو متفق عليه بين الذين أوتوا العلم والإيمان قولًا واعتقادًا؛ وإن خالفه بعضهم عملًا وحالًا. فليس عالم من المسلمين يشك في أن الواجب على الخلق طاعة اللّه ورسوله، وأن ماسواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها اللّه ورسوله. / وفي الحقيقة، فالواجب في الأصل إنما هو طاعة اللّه، لكن لا سبيل إلى العلم بمأموره وبخبره كله إلا من جهة الرسل، والمبلغ عنه إما مبلغ أمره وكلماته فتجب طاعته وتصديقه في جميع ما أمر وأخبر، وأما ما سوى ذلك فإنما يطاع في حال دون حال، كالأمراء الذين تجب طاعتهم في محل ولايتهم ما لم يأمروا بمعصية اللّه، والعلماء الذين تجب طاعتهم على المستفتى والمأمور فيما أوجبوه عليه مبلغين عن اللّه، أو مجتهدين اجتهادًا تجب طاعتهم فيه على المقلد، ويدخل في ذلك مشائخ الدين ورؤساء الدنيا حيث أمر بطاعتهم، كاتباع أئمة الصلاة فيها، واتباع أئمة الحج فيه، واتباع أمراء الغزو فيه، واتباع الحكام في أحكامهم، واتباع المشايخ المهتدين في هديهم، ونحو ذلك. والمقصود بهذا الأصل أن من نَصَّبَ إمامًا، فأوجب طاعته مطلقًا اعتقادًا أو حالًا فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية؛ حيث جعلوا في كل وقت إمامًا معصومًا تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت منهم من كان خليفة راشدًا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو على. ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين؛ كعلى بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، ومنهم دون ذلك. / وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء، وأفرده عن نظرائه؛ كالشـيخ عدى، والشيخ أحمد، والشيخ عبد القادر، والشيخ حَيْوَة، ونحوهم. وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقًا، كالأئمة الأربعة. وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة والولاة في كل ما يأمرون وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء، لكن هؤلاء لا يدعون العصمة لمتبوعيهم إلا غإلىة أتباع المشايخ؛ كالشيخ عَدِىّ وسعد المَدِينى بن حَمَوَيْه، ونحوهما؛ فإنهم يدعون فيهم نحوًا مما تدعيه الغإلىة في أئمة بنى هاشم من العصمة، ثم من الترجيح على النبوة، ثم من دعوى الإلهية. وأما كثير من أتباع أئمة العلم ومشايخ الدين فحالهم وهواهم يضاهي حال من يوجب اتباع متبوعه، لكنه لا يقول ذلك بلسانه ولا يعتقده علمًا، فحاله يخالف اعتقاده، بمنزلة العصاة أهل الشهوات، وهؤلاء أصلح ممن يرى وجوب ذلك ويعتقده. وكذلك أتباع الملوك والرؤساء هم كما أخبر اللّه عنهم بقوله: وكذا من نصَّب القياس أو العقل أو الذوق مطلقـًا من أهل الفلسفة والكلام والتصوف، أو قدمه بين يدى الرسول من أهل الكلام والرأى والفلسفة والتصوف؛ فإنه بمنزلة من نَصَّبَ شخصًا، فالاتباع المطلق دائر مع الرسول وجودًا وعدمًا.
أول البدع ظهورًا في الإسلام، وأظهرها ذَمـًّا في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة؛ فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضة بوصفهم وذمهم / والأمر بقتالهم. قال أحمد بن حنبل: صَحَّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَحْقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة). ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم: أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخُوَيْصِرَة التميمي: اعدل فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل). فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سفهًا وترك عدل، وقوله: [اعدل] أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. / والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعتـه، وإنما صدقـوه فيما بلغــه مـن القـرآن دون مـا شـرعـه مـن السـنة التي تخالف ـ بزعمهم ـ ظاهر القرآن. وغالب أهل البدع ـ غير الخوارج ـ يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد في حديث الصادق المصدوق، وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة؛ إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن. الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم.فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرًا. / فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة، ومن كَفّر المسلمين بما رآه ذنبًا سواء كان دينًا أو لم يكن دينًا وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة. وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين. أما الأول فشبه التأويل الفاسد أو القياس الفاسد؛ إما حديث بلغه عن الرسول لا يكون صحيحًا، أو أثر عن غير الرسول قلده فيه ولم يكن ذلك القائل مصيبًا، أو تأويل تأوله من آية من كتاب الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح أو ضعيف، أو أثر مقبول أو مردود ولم يكن التأويل صحيحًا، وإما قياس فاسد، أو رَأْي رآه اعتقده صوابًا وهو خطأ. فالقياس والرأي والذوق هو عامة خطأ المتكلمة والمتصوفة وطائفة من المتفقهة. وتأويل النصوص الصحيحة أو الضعيفة عامة خطأ طوائف المتكلمة والمحدثة والمقلدة والمتصوفة والمتفقهة. / وأما التكفير بذنب، أو اعتقاد سني فهو مذهب الخوارج. والتكفير باعتقاد سني مذهب الرافضة والمعتزلة وكثير من غيرهم. وأما التكفير باعتقاد بدعي فقد بينته في غير هذا الموضع، ودون التكفير قد يقع من البغض والذم والعقوبة ـ وهو العدوان ـ أو من ترك المحبة والدعاء والإحسان وهو التفريط ببعض هذه التأويلات ما لا يسوغ، وجماع ذلك ظلم في حق الله ـ تعالى ـ أو حق المخلوق، كما بينته في غير هذا الموضع؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.
/ الحمد الله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله، ووجوب اتباعه، وبيان الاهتداء به في كل ما يحتاج إليه الناس من دينهم، وأن النجاة والسعادة في اتباعه والشقاء في مخالفته، وما دل عليه من اتباع السنة والجماعة، قال الله تعالى: وفي السورة الأخرى: وقال تعالى: وفي قوله: وقال تعالى: [آل عمران: 100 ـ 103] فأمر بالاعتصام بحبل الله وهو كتابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن هذا القرآن حبل ممدود، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به،فإنكم لن تضلوا ما تمسكتم به). وفي الحديث الآخر: (وهو حبل الله المتين).ثم قال تعالى: وقال تعالى:
|